الاعتكاف والخلوة
الاعتكاف والخلوة هي عملية تهدف إلى صفاء الروح والتقرب إلى الله تعالى. الخلوة تعني العزلة المؤقتة التي يكون الهدف الأساسي منها زيادة التركيز على العبادة، التفكر، وتزكية النفس. في هذه الفترة ينفصل الإنسان عن العالم الخارجي ليغوص في أعماق نفسه ويقيم علاقة أعمق مع نفسه ومع الله عز وجل. هذه العملية تُشبه فتح الأقفال الروحية للإنسان، مما يؤدي في النهاية إلى نموه وترقيته روحانيًا.
تفسير الخلوة بمثال علمي
لنفهم هذا الموضوع بشكل أفضل، يمكننا أن نستعين بمثال من العلم الحديث: الاستنساخ.
الاستنساخ هو عملية إنشاء كائن حي جديد من خلية أو مجموعة خلايا. في الماضي، واجه العلماء صعوبات في تحقيق هذه العملية؛ لأن كل خلية، رغم احتوائها على جميع المعلومات اللازمة لتكوين كائن كامل، كانت قادرة فقط على إنتاج نوع معين من الخلايا. على سبيل المثال، خلية الجلد تنتج الجلد فقط، وخلية العين تنتج العين. السبب في ذلك أن المعلومات داخل كل خلية كانت مقفلة ولا يمكن الوصول إليها.
لكن بعد سنوات من الأبحاث، اكتشف العلماء أن فتح هذه الأقفال يتطلب تغييرًا في بيئة الخلية؛ عن طريق تقليل الغذاء وجعلها قريبة من الموت. في هذه الحالة الاستثنائية، استطاعت الخلايا فتح جميع معلوماتها الجينية. هذا الاكتشاف أدى إلى استنساخ أول كائن حي، الخروف “دولي” عام 1996.
الخلوة في الطريقة القادرية الكسنزانية
في الطريقة القادرية الكسنزانية، تُعتبر “الخلوة” أحد المبادئ الأساسية في السلوك الروحي. الخلوة تعني الانعزال عن الدنيا وإقامة صلة مباشرة مع الله تعالى. هذه العملية ليست فقط من أجل تطهير الروح والوصول إلى مقام القرب الإلهي، بل تهدف أيضًا إلى تقوية الإرادة في مواجهة وساوس النفس والمعاصي.
مفهوم الخلوة ومشروعيتها
الخلوة في الطريقة القادرية تستند إلى تعاليم إسلامية وعرفانية راسخة. معناها الابتعاد عن الناس للتركيز على حب الله وحده، المعشوق الحقيقي. يقول الله تعالى في القرآن الكريم:
“وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا” (المزمل: 8)
وفي الحديث القدسي يقول الله عز وجل:
“أنا جليس من ذكرني“
هذا النص يظهر بوضوح مكانة الخلوة وأهميتها في حياة السالكين والطريق إلى الله.
الخلوة في سُنَّة النبي الأكرم صلى الله تعالی عليه وآله وسلم
إن أول من بدأ منهج الخلوة هو النبي الأكرم صلى الله تعالی عليه وآله وسلم ، حيث كان يعتزل الناس قبل البعثة ويتوجه إلى غار حراء، ليختلي بنفسه ويعبد الله تعالى بعيدًا عن ضجيج الدنيا. وبهذا التفرغ والاعتكاف، كان يتأمل في خلق الله ويتقرب إليه، حتى نزل عليه الوحي لأول مرة في هذا المكان المبارك.
حتى بعد البعثة النبوية الشريفة، واصل رسول الله صلى الله تعالی عليه وآله وسلم هذه السُّنَّة العظيمة، ليُظهر أهمية الخلوة والاعتكاف في تهذيب النفس وتعزيز القرب من الله سبحانه وتعالى.
مدة الخلوة
الحد الأدنى للخلوة: عشرة أيام؛ لأن النبي صلى الله تعالی عليه وآله وسلم اعتكف عشرة أيام في السنة.
المدة المثالية: يرى كثير من أهل الطريقة أن المدة المثالية للخلوة هي أربعون يومًا. وهذا الاعتقاد يستند إلى وعد الله تعالى لموسى عليه السلام، حيث قضى أربعين ليلة في الخلوة والاعتكاف استعدادًا لملاقاة ربه.
يقول الله تعالى في القرآن الكريم:
“وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً” (الأعراف: 142).
ويُروى عن النبي الأكرم صلى الله تعالی عليه وآله وسلم:
“كنتُ في غار حراء شهرًا، فلما أكملتُ مدتي عدتُ إلى الوادي فأقمتُ به“.
مكانة الخلوة في سُنَّة الأنبياء والعرفاء
هذه التعاليم العظيمة تُبيِّن أن الخلوة فرصة استثنائية للتأمل، والتقرب من الله عزَّ وجلَّ، وتقوية الإيمان. وقد اتخذها الأنبياء والعرفاء نهجًا للتزكية والتهذيب الروحي، حيث تمثل الخلوة رحلة مباركة تُعيد الإنسان إلى فطرته النقية وتربطه بالخالق عزَّ وجلَّ.
الاعتكاف والخلوة في الطريقة القادرية الكسنزانية
الاعتكاف والخلوة في الطريقة القادرية الكسنزانية تُعدُّ إحدى المراحل الأساسية في السلوك الروحي، حيث تهدف إلى تهذيب النفس، التقرب إلى الله تعالى، واكتساب صفاء الباطن. يتضمن هذا النهج مراحل متعددة يجب على المريد الالتزام بها بدقة تحت إشراف ورعاية الشيخ. ويُؤكَّد في هذا المنهج على العناية الخاصة بالجسد، والعبادات، والأذكار، بل وحتى كيفية الأكل والنوم خلال فترة الخلوة.
1. أخذ الإذن من الشيخ
قبل البدء في أي نوع من الخلوة، يجب على المريد أن يحصل على إذن مباشر من الشيخ. بدون توجيه ومراقبة من الشيخ، قد تُشكّل الخلوة خطورة على المريد، فالشيخ هو المسؤول عن إرشاده وحمايته خلال هذه الرحلة الروحية.
2. التغذية أثناء الخلوة
خلال الخلوة، يجب أن يكون الطعام خفيفًا وموزعًا على أربع مراحل لضمان التركيز الروحي والابتعاد عن تأثير الأطعمة الثقيلة:
- العشرة أيام الأولى: قرص خبز صغير مع قليل من الفواكه أو الخضروات والشاي.
- العشرة أيام الثانية: نصف قرص خبز مع القليل من الفواكه أو الخضروات والشاي.
- العشرة أيام الثالثة: ربع قرص خبز مع مقدار بسيط من الفواكه أو الخضروات.
- العشرة أيام الأخيرة:
- في أول سبعة أيام: ثلاث تمرات فقط يوميًا.
- في الثلاثة أيام الأخيرة: يقتصر الطعام على الماء والشاي فقط.
3. العبادات والأذكار
الأذكار:
المريد مُكلّف بأداء الأذكار اليومية (صباحًا، عصرًا، وعشاءً) بالإضافة إلى الأذكار الدائمية للطريقة، حيث يردد كل ذكر 100 ألف مرة. عند إتمام الذكر قبل نهاية الخلوة، يبدأ المريد بإعادة الذكر من البداية.
الصلوات:
إلى جانب الصلوات الخمس المفروضة، على المريد أداء الصلوات التالية:
- صلاة الوضوء: ركعتان بعد كل وضوء قبل أن يجف الماء.
- ركعتان قبل صلاة الفجر.
- صلاة الضحى: بعد شروق الشمس، وأقلها أربع ركعات.
- أربع ركعات قبل الظهر وأربع ركعات بعدها.
- أربع ركعات قبل صلاة العصر.
- ركعتان بعد صلاة المغرب.
- ركعتان قبل العشاء وركعتان بعدها.
بعد صلاة المغرب:
يقف المريد مرددًا ذكر “يا خبير” مائة مرة، ثم يجلس لاستكمال الأذكار.
4. الوضعية أثناء الخلوة
يجلس المريد في وضعية التربع أو الجلوس على الركبتين (كالجلوس في الصلاة) ويبدأ بذكر الله بتركيز تام. إن شعر بالتعب، يُسمح له بالجلوس بوضعية مريحة مع إبقاء عينيه مغلقتين ووجهه نحو القبلة.
5. مراقبة الأفكار والنوم
يجب على المريد الامتناع عن التفكير في الأمور الدنيوية.
يُمنع النوم إلا في ساعة واحدة بعد شروق الشمس.
يُوصى بالابتعاد تمامًا عن النوم ليلًا.
6. التمارين الجسدية والروحية
- المشي اليومي: يُلزم المريد بالسير مائة خطوة يوميًا.
- الذكر أثناء الحركة: أثناء المشي، يُردد المريد ذكر “صلى الله سبحانه وتعالى عليك وسلم يا رسول الله” مائة مرة.
7. الانقطاع عن العالم الخارجي
أثناء الخلوة، يجب على المريد الامتناع تمامًا عن أي تواصل مع العالم الخارجي، والتركيز فقط على ذكر الله والعبادة.
8. نهاية الخلوة والعودة إلى الحياة العامة
بعد انتهاء الخلوة (وعادةً تستمر 40 يومًا)، يعود المريد تدريجيًا إلى العالم الخارجي، مع الالتزام بالعبادات والذكر اليومي. من الضروري أن يتم هذا الانتقال تحت إشراف الشيخ لتجنب أي انحراف روحي أو وسوسة من الشيطان.
فوائد الخلوة
تُساعد هذه التعليمات على تهذيب النفس، تطهير القلب من الشهوات والمعاصي، وتقوية الإرادة في مواجهة وساوس النفس والشيطان. إنها رحلة روحية تهدف إلى تحقيق قرب خاص من الله تعالى ونيل صفاء الباطن.
برنامج الرياضة لمن ليس لديه وقت كافٍ للخلوة
من لم يكن لديه وقت كافٍ للخلوة وتعلم الأمور الروحية وتذوق لذة العبادات للوصول إلى نقاء وصفاء القلب، يمكنه تحقيق هذا الهدف من خلال الرياضة الروحية المذكورة أدناه. الرياضة جزء من المجاهدة ولها مذاقات خاصة تُضيء قلب المريد وتُطهِّر باطنه. في الطريقة القادرية الكسنزانية، وُضعت برامج دقيقة ومناسبة لهذا الغرض تتضمن ما يلي:
١ . يمتنع عن أكل المنتوجات الحيوانية ومشتقاتها خلال مدة الرياضة .
٢ . يقلل من أكل الخبز تدريجياً لأن له صفة اللحوم ومشتقاتها من حيث تأثيره واستثارته للشهوات .
٣ . يقلل من كلام الدنيا ويجد في الذكر ما يعوضه في ذلك .
٤ . أن لا يشبع وجبات طعامه ولا يكثر من شرب الماء لأن ذلك يحثه على النوم والغفلة .
ه . أن يأكل طعاماً حلالاً ليس فيه شبهة من حيث مصدره فإن ذلك أقرب إلى يقظة القلب .
وبالنسبة لرياضة العشرة أيام فهي كالتالي :
أ . الطعام :
الفطور: وقت تناوله بعد صلاة الفجر وحتى شروق الشمس. نوع الطعام: كمية قليلة من الخبز (يفضل أن يكون يابساً) مع الشاي؛ وإذا توفر خبز الشعير فهو أفضل. الكمية القليلة تعني ما يعادل حجم كفي يد مفتوحتين.
الغداء: نفس كمية الخبز المستخدم في الفطور مع الفواكه والخضروات.
العشاء: يتم تناوله بنفس كمية ونوعية الغداء، ويمكن للمبتدئين إضافة كمية قليلة من الخضروات والبقوليات المطبوخة (بدون لحم أو إضافات حيوانية) بدون زيت (مشوية أو مسلوقة).
ملاحظة هامة:
بين الوجبات، يُسمح للشخص بشرب السوائل فقط.
ب . الاذکار والأوراد :
إذا كان المريد في التسعة الأوراد الأولى ( أي من لا اله إلا الله إلى يا رحيم ) ) 10 ألاف ) في النهار و ( ٣ ألاف ( في الليل بالإضافة إلى الأوراد اليومية .
أما إذا كان المريد في العشرة أوراد الأخيرة أي من ( سبحان الله والحمد لله ولا اله إلا الله .. الله اكبر .. إلى .. لا مراد إلا الله ) ( ٤ آلاف ) في النهار و( ألف واحد ) في الليل بالإضافة إلى الأوراد اليومية .
ج . الصلاة :
حافظ على الصلوات التالية:
- صلاة الضحى: أربع ركعات، ووقتها يبدأ بعد شروق الشمس بـ15-20 دقيقة إلى ما يقارب 10-15 دقيقة قبل صلاة الظهر.
- صلاة الأوابين: ست ركعات، تُصلّى بعد صلاة المغرب.
- صلاة التهجد: عشر ركعات، وتُؤدى بعد الاستيقاظ من النوم في الليل.
- صلاة الوتر: ثلاث ركعات، تُصلّى بعد العشاء، ووقتها يمتد حتى الفجر.
- صلاة الوضوء: ركعتان بعد كل وضوء وقبل أن يجف الماء.
- صلاة التسابيح: أربع ركعات مقسمة إلى ركعتين مع التسليم بينهما. في كل ركعة سورة الفاتحة وشيئاً من القرآن وأنت قائم تقول (15) أستغفر الله سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، ثم تقول (10) مرات مثلما قلت في القيام ، وفي كل حركة ركوع وسجود ، فيكون المجموع (75) تسبيحة في كل ركعة .
د . السهر:
ينام الساعة الحادية عشرة ويستيقظ قبل الفجر بساعة واحدة القيام الليل .
ه . الصيام:
يصوم يوم الاثنين والخميس والأيام البيض وهي أيام ( ١٣ ، ١٤ ، ١٥ ) في كل شهر قمري .
هناك بعض الملاحظات يجب مراعاتها :
١ . أن لا يرى نفسه أفضل من غيره كي لا يؤدي ذلك إلى فساد مجاهدته .
٢ . أن يكون قليل الكلام قليل الضحك قليل الاختلاط .
٣ . أن يحافظ على أداء الصلاة في أوقاتها .
٤ . عليه أن يخفي سلوكه جهد الإمكان ولا يجعل أحداً يعرف بوضعه .
ه . أن لا يتجاوز أوقات الطعام ويأكل بينها عدى السوائل .
٦ . يكون طوال وقته على وضوء تام .
٧ . أن يمتنع عن الجماع خلال أيام الرياضة لتقوى عنده صفات الروح وتخمد صفات النفس .
٨ . عدم النوم على الوسائد المرتفعة والأسرة والاكتفاء بالنوم على الأرض ليكون قريباً من صلابتها والامتناع عن استعمال الأغطية الثقيلة كي ينهض لتكملة عباداته بدون تسويف وبكل نشاط .
أن أهمية الجوع في الرياضة الروحية يساعد في تقوية الروح وإضعاف الشهوات، مما يمكن المريد من التركيز على الذكر والتأمل بعمق أكبر.
بعد الانتهاء من الرياضة الروحية لمدة عشرة أيام، يُرجى إبلاغنا عن طريق قسم “اتصل بنا” في الموقع.