مقدمة

يُعدّ العراق مهدًا للعديد من الطرق الصوفية التي ساهمت في إثراء الحياة الروحية والثقافية للمجتمع الإسلامي على مرّ القرون. ومن بين هذه الطرق تبرز الطريقة الكسنزانية كواحدة من أبرز المدارس الصوفية التي نشأت وتطوّرت في الأراضي العراقية. إنّ تتبّع جذور وأصول هذه الطريقة يفتح نافذة على تاريخ طويل من التربية الروحية، والسلوك الصوفي، والارتباط العميق بالعقيدة الإسلامية من خلال البعد الباطني والعرفاني.

 

الجذور التاريخية للتصوف في العراق

يُعدّ العراق من أهمّ المراكز التاريخية التي نشأ وتطوّر فيها التصوّف الإسلامي، منذ القرون الأولى للهجرة. فبفضل موقعه الجغرافي بين الشرق والغرب الإسلامي، واحتضانه لكبار العلماء والفقهاء والمفسرين، تحوّل العراق إلى حاضنة طبيعية لظهور الطرق الصوفية وانتشارها. وقد شهدت مدن مثل بغداد والموصل وكركوك والسليمانية حركات روحية واسعة النطاق منذ القرن الثالث الهجري، حيث كانت الزوايا والتكايا جزءًا من النسيج الاجتماعي والديني لتلك الحواضر.

كان لمدرسة الجنيد البغدادي دورٌ أساسيٌّ في وضع الأُسس العلمية والسلوكية للتصوّف السُّني، وهي المدرسة التي أثّرت في الأجيال التالية من الصوفية في العراق وخارجه. ثم ظهر في القرن السادس الهجري الإمام الشيخ عبد القادر الجيلاني، وهو من أبرز رموز التصوّف السُّني، وقد أسّس الطريقة القادرية في بغداد، والتي انتشرت في جميع أنحاء العالم الإسلامي.

هذه الخلفية الغنية وفّرت الأساس لظهور فروع جديدة من الطرق الصوفية، ومنها الطريقة الكسنزانية، التي تُعدّ امتدادًا روحياً للطريقة القادرية، ولكنها تميّزت بخصوصياتها العملية والروحية التي تطوّرت مع الزمن في البيئة العراقية، ولا سيّما في المناطق الكردية في شمال العراق.

نشأة الطريقة الكسنزانية

ترجع نشأة الطريقة الكسنزانية إلى الشيخ عبد الكريم شاه الكسنزان،الذي عاش في القرن العشرين الميلادي، ويُعدّ المؤسّس الفعلي لهذه الطريقة الصوفية التي انطلقت من منطقة كسنزان الواقعة بالقرب من مدينة كركوك شمال العراق. ومن اسم هذه المنطقة استمدّت الطريقة تسميتها، حيث أصبحت تُعرف بـ”الطريقة الكسنزانية”، نسبةً إلى موطن نشأتها ومقام مؤسّسها.

الشيخ عبد الكريم الكسنزان كان من أهل الطريق، وتربّى على أسس التصوف القادري، إذ ينتمي نسبه الروحي إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني، وهو ما يجعل الطريقة الكسنزانية في أصلها امتدادًا للسلسلة القادرية، لكنها اتخذت مسارًا خاصًا بها من حيث التسمية والوظيفة التنظيمية والانتشار الاجتماعي.

ما يميز نشأة الطريقة الكسنزانية هو أنها لم تكن مجرّد تفرّع اسمي عن الطريقة القادرية، بل كانت نتيجة مسيرة طويلة من التجربة الروحية والتعليم الصوفي العملي، حيث كان الشيخ عبد الكريم يُعرف بخوارقه ومجاهداته وكراماته التي جذبَت إليه المريدين من مختلف المناطق.

مع مرور الزمن، تبلورت الطريقة بشكل مؤسسي أكثر، وتناقلت المشيخة من الأب إلى الابن، حيث تولّى الشيخ محمد عبد الكريم الكسنزان بعد والده، فكان له دور كبير في توسيع نطاق الطريقة وتثبيت أُسسها وتعاليمها وتنظيمها في العراق وخارجه.

وهكذا، نشأت الطريقة الكسنزانية في سياق صوفي عراقيّ أصيل، لكنها قدّمت نفسها بأسلوب جديد، جامع بين التقليد والخصوصية الروحية.

النسب الروحي والعلائقي للطريقة الكسنزانية

الطريقة الكسنزانية ليست طريقة مبتدعة أو منقطعة عن أصول التصوّف الإسلامي، بل إنها تتّصل بسلسلة روحية عريقة تعود إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني، أحد أعظم رموز التصوف في التاريخ الإسلامي. فكما هو الحال في الطرق الصوفية التقليدية، تستند الطريقة الكسنزانية إلى سلسلة من المشايخ يُطلق عليها اسم السلسلة الذهبية، وهي سلسلة تربط الشيخ الحالي إلى النبي محمد ﷺ عبر سلسلة متّصلة من الأولياء والعرفاء.

ويُطلق على هذه السلسلة في المصطلحات الصوفية سلسلة الإذن أو السلسلة الروحية، وهي التي تمنح للمريد مشروعية التلقّي والانتساب. في الطريقة الكسنزانية، تُعدّ هذه السلسلة جزءاً جوهرياً من الهوية الروحية للطريقة، وتتم قراءتها في بعض المجالس، وتُحفظ لدى الخلفاء والمريدين.

ومن أبرز ما يميّز هذه السلسلة في الطريقة الكسنزانية هو التأكيد على أنها سلسلة حيّة غير منقطعة، تتضمّن كبار مشايخ الطريقة القادرية، حتى تصل إلى الشيخ عبد الكريم الكسنزان، ومن بعده إلى الشيخ محمد، ثم الشيخ نهرو، قدس الله سره اسرارهم.

كما تبرز العلاقة الوثيقة بين الطريقة الكسنزانية والطريقة القادرية، حيث تعتبر الكسنزانية امتدادًا روحياً وتنظيمياً للطريقة القادرية، ولكنها قدّمت لنفسها خصوصيات مستقلة في الجوانب العملية، كطريقة الذكر، والتربية الروحية، وتوزيع الخلافة، والتوسّع في مفاهيم الكرامة والخوارق، ممّا جعل لها طابعاً خاصاً يُميّزها ضمن الطرق القادرية المتعدّدة.

التحوّل من الطريقة القادرية إلى الطريقة الكسنزانية

كما ذكرنا سابقاً، تنتمي الطريقة الكسنزانية إلى الجذور القادرية من حيث السلسلة الروحية والنهج العام، لكنها مرّت بتحوّل تدريجي جعلها تتمايز في التسمية والممارسة والتنظيم. هذا التحوّل لم يكن انشقاقًا أو خروجًا عن المنهج القادري، بل كان نتيجة لتطوّر طبيعيّ نابع من شخصية مؤسسها، الشيخ عبد الكريم الكسنزان، وتجربته الروحية الفريدة.

لقد أُطلق اسم “الطريقة الكسنزانية” نسبة إلى منطقة كَسْنَزان، التي كانت مقرّ إقامة الشيخ عبد الكريم، وهي منطقة تقع في محافظة كركوك شمال العراق. مع ازدياد شهرة الشيخ وظهور الكرامات على يديه، بدأ المريدون يُطلقون على نهجه الصوفي “الطريقة الكسنزانية”، تمييزاً لها عن باقي الفروع القادرية المنتشرة في العراق والعالم الإسلامي.

كان من أبرز مظاهر هذا التحوّل:

  • التركيز على الذكر الجماعي الحركي، الذي يتضمّن حركة الجسد مع التسبيح، وهو أحد عناصر الجذب في مجالس الطريقة.
  • توسيع مفاهيم الكرامة والخوارق، بما في ذلك إظهار آيات جسدية في الذكر (كغرز السيوف والإبر) كدليل على الحماية الإلهية.
  • إرساء نظام إداري منضبط للطريقة، يتضمّن مراتب ميدانية وروحية مثل: الخليفة، المرشد، الوكيل، الخادم… وغيرها.
  • انفتاح الطريقة على مختلف الطوائف والقوميات، وعدم حصرها في إطار قومي أو مذهبي ضيّق.

وبهذا، تحوّلت الطريقة الكسنزانية من كونها فرعًا من فروع القادرية، إلى طريقة قائمة بذاتها، لها أتباع بالملايين في العراق، وامتدادٌ في دولٍ متعددة مثل إيران، سوريا، لبنان، تركيا، باكستان، أوروبا وأميركا.

هذا التحوّل لم يكن وليد لحظة واحدة، بل هو ثمرة عقود من التربية الصوفية والتفاعل مع المجتمع، ما أكسبها مكانة مرموقة في الساحة الروحية العراقية.

موقع الطريقة الكسنزانية في المجتمع العراقي

تتمتّع الطريقة الكسنزانية بموقعٍ متميّز في المشهد الروحي والاجتماعي في العراق، إذ تجاوزت حدود الزوايا التقليدية لتصبح ظاهرة اجتماعية صوفية واسعة الانتشار، لها تأثير واضح في أوساط مختلفة من الشعب العراقي، لا سيّما في شمال البلاد ووسطها.

 الامتداد الجغرافي

تنتشر الطريقة بشكل أساسي في المناطق التالية:

  • إقليم كردستان العراق: خاصة في محافظات كركوك، السليمانية، وأربيل. وقد نشأت الطريقة في منطقة كَسْنَزان القريبة من مدينة كركوك، ولا تزال تُعدّ مركزًا روحيًا لها.
  • المناطق الوسطى والجنوبية: يوجد أتباع ومريدون في بغداد، ديالى، الأنبار، بابل، واسط، وذي قار.
  • الانتشار الدولي: امتدت الطريقة إلى دول الجوار مثل إيران وسوريا وتركيا، ثم إلى أوروبا وأمريكا، حيث توجد تكايا ومراكز روحية في لندن، برلين، مشيغان وغيرها.

القبول الشعبي العابر للطوائف

من أبرز سمات الطريقة الكسنزانية أنها استطاعت كسر الحواجز الطائفية والعرقية، فهي تضمّ في صفوفها:

  • العرب والكرد والتركمان.
  • السنّة والشيعة.
  • المسلمين الجدد، وبعض غير المسلمين الذين دخلوا الإسلام من خلال ممارسات الذكر والروحانية.

هذا الانفتاح جعل الطريقة جسرًا للتواصل الروحي والاجتماعي بين فئات متعددة من المجتمع العراقي، في زمنٍ يعاني فيه البلد من انقسامات طائفية وسياسية.

 التأثير الثقافي والاجتماعي

تلعب الطريقة دورًا في:

  • نشر ثقافة السلام الداخلي والتسامح.
  • تنظيم المجالس الروحية والاحتفالات الدينية التي تجمع الآلاف من المريدين.
  • دعم الأعمال الخيرية، وخدمة الفقراء والمحتاجين.
  • الحفاظ على التراث الصوفي من خلال التكايا والدروس والمجالس الدورية.

وقد أثبتت الطريقة حضورها الاجتماعي حتى في أصعب الظروف الأمنية والسياسية، فكانت رمزًا للثبات الروحي والولاء الوطني في وجه التطرف والتفرقة.

 

 الخاتمة

تمثّل الطريقة الكسنزانية نموذجًا حيًّا على تجدد التصوّف الإسلامي في العصر الحديث، دون أن يفقد أصالته أو جذوره الروحية العميقة. فهي طريقة تستمدّ شرعيتها من السلسلة القادرية المباركة، لكنها قدّمت نفسها بأسلوب يتماشى مع متغيّرات الزمان والمكان، مما جعلها مقبولة لدى أوساط واسعة من الناس.

من خلال انتشارها الجغرافي الواسع، وانفتاحها على كل الأعراق والطوائف، وتجديدها لأساليب الذكر والتربية، استطاعت الطريقة الكسنزانية أن تحقّق حضورًا صوفيًا متميّزًا في العراق وخارجه، وأن تقدّم صورة من صور التصوّف الإيجابي، الذي لا ينغلق على ذاته، بل يسعى إلى إصلاح الفرد والمجتمع، وتعزيز القيم الإنسانية والروحية.

كما أن هذا الامتداد لا يزال مستمرًا، خصوصًا مع النشاطات الإعلامية والتعليمية التي تقوم بها مؤسسات الطريقة، والتي تهدف إلى نشر ثقافة الذكر والتوحيد والمحبة، وتقديم الصوفية كطريق عمليّ لتزكية النفس وتقوية العلاقة بالله تعالى.

وفي زمنٍ يشهد العالم فيه تصاعد التيارات المتشدّدة والانقسامات الفكرية، تبرز أهمية الطريقة الكسنزانية كصوت للاعتدال، ورسالة للسلام، وجسر بين الإنسان وخالقه، بعيدًا عن التعصّب والانغلاق.