مقدمة

ولد السيد الشيخ عبد الكريم الكسنزان قدس الله سره في عام 1336هـ (1915م) في قرية كربجنه التابعة لناحية سنكاو في محافظة كركوك، العراق. تربى في عائلة دينية أصيلة، حيث كان والده، السيد الشيخ عبد القادر الكسنزان، شيخ الطريقة القادرية الكسنزانية في تلك الفترة. ورث الشيخ عبد الكريم مكانة عظيمة من والده، وكانت نشأته مليئة بالروحانيات والعبادات التي شكلت شخصيته الفكرية والروحية التي أشتهر بها.

نشأته المبكرة وتربيته الروحية

منذ طفولته، كان السيد عبد الكريم محبًا للخير والكرم، ويظهر في سلوكياته تعاطفاً خاصاً مع الفقراء والمحتاجين. يذكر أن الشيخ كان في صغره يطلب من والده ذبح خروف ويوزعه على أطفال القرية، وكان يعطف على الأيتام والمساكين. ورغم صغر سنه، كان معروفًا بحكمته وعقله الراجح، وبدأ في التدخل لحل المنازعات بين أصحابه ومساعدتهم، مما جعله موضع احترام من الجميع. في شبابه، مارس الفروسية وكان محبًا للصيد، لكنه لم يكن يفضل التواجد مع الناس بل كان يميل إلى العزلة والاختلاء بنفسه، حيث كانت تلك العزلة تمنحه صفاءً روحيًا كبيرًا.

تعليمه وتربيته على يد العلماء

حصل الشيخ عبد الكريم على تعليمه الديني في مدرسة جده الدينية (كربجنه) حيث درس القرآن الكريم والعلوم الشرعية على أيدي كبار العلماء. وبعد أن تخرج، قرر أن يكرس حياته لخدمة التصوف وتوجيه المريدين نحو الطريق المستقيم. وقد قام والده، الشيخ عبد القادر الكسنزان، بتعليم الشيخ عبد الكريم الطريقة القادرية الكسنزانية، وسار على نهج الصوفية بكل إخلاص، حيث اعتكف في خلوات عدة وأصبح معروفًا بلقب “الشيخ” بين أتباعه.

مشيخته ورؤيته الروحية

عُين الشيخ عبد الكريم مشيخًا للطريقة القادرية الكسنزانية بعد أن أمره جده الروحي، الشيخ حسين الكسنزان قدس الله سره، بتولي شؤون الطريقة. كان يعتقد أن تولي المشيخة في الطريقة ليس فقط مسؤولية دينية بل أيضاً مسؤولية أخلاقية وروحية، وأن الشيخ يجب أن يكون متواضعًا، حكيمًا، ومخلصًا في عمله. استمر الشيخ عبد الكريم في خدمة الطريقة، وتوسع تأثيره على المريدين الذين كانوا يأتون إليه من مختلف أنحاء العراق وأجزاء من العالم العربي والإسلامي. وعرف بقدراته الكبيرة على جذب القلوب إلى الله عز وجل من خلال توجيهاته السليمة وتوجيه المريدين إلى الطريق المستقيم.

كراماته وتدخلاته الروحية

عُرف عن الشيخ عبد الكريم الكسنزان العديد من الكرامات التي تحققت على يديه، من أبرزها شفاء المرضى والقيام بأعمال خارقة للعادة مثل مسك الأسلاك الكهربائية دون التأثر، وأكل الأفاعي والعقارب، والتعامل مع السيوف والحراب. وكان له قدرة عظيمة في شفاء الأمراض المستعصية، حيث يذكر أن أحد مرضاه كان يعاني من السرطان وبعد دعاء الشيخ له واتباعه تعليماته، شُفي المريض تمامًا. كما كان له قدرة على فكّ السحر وإبطال أعمال السوء على يد مريديه بعد إجازة الشيخ لهم.

توجيهه للأمة وحكمته الروحية

كان الشيخ عبد الكريم يولي اهتمامًا كبيرًا لتعليم المريدين كيفية التصالح مع أنفسهم ومع الناس. كان يُحذر دائمًا من الدنيا ومغرياتها، ويركز على الزهد والورع ويحث الجميع على الاقتراب من الله سبحانه وتعالى. كما كان يشدد على الأخلاق الحميدة، والصدق، والرحمة مع الآخرين، خاصة مع الفقراء والمحتاجين. وقد قال في إحدى مواعظه الشهيرة: “الدنيا ليست إلا فخًا، لا تغتروا بها ولا تلهوها عن غايتكم الحقيقية، وهي التقرب إلى الله”.

مواقفه الجهادية والإنسانية

كان الشيخ عبد الكريم الكسنزان ليس فقط شيخًا روحانيًا بل أيضًا شخصًا قويًا في مواقفه الوطنية. فقد كان له دور في مقاومة الاستعمار البريطاني للعراق، حيث شارك في معركة كربجنة ضد الإنجليز، كما قاد عدة معارك ضد الاحتلال في وقت لاحق، وكان له صدى كبير بين العراقيين لتأييده القضايا الوطنية.

انتقاله إلى جوار ربه وتولية مشيخة الطريقة

انتقل الشيخ عبد الكريم قدس الله سره إلى جوار ربه في عام 1399 هـ (1979م) بعد مسيرة حافلة بالعطاء الروحي والعلمي. وقد خلفه في مشيخة الطريقة ابنه الشيخ محمد الكسنزان قدس الله سره، الذي تابَع مسيرته في نشر تعاليم الطريقة وتوجيه المريدين نحو طريق الحق. وقد ترك الشيخ عبد الكريم الكسنزان أثرًا عميقًا في نفوس مريديه، وأصبح مصدر إلهام لأجيال من المتصوفة الذين يعتبرونه قدوة في الزهد والإيمان. توفي الشيخ عبد الكريم في مدينة كركوك بعد جولات متعددة للإرشاد في العراق وإيران، حيث كان دائم التنقل بين البلدان لنشر الطريقة والإرشاد.