تلاميذ مدرسة التصوف في المدينة المنورة

سلمان الفارسي رضي الله عنه:

كان للإمام علي (كرم الله وجهه) تلاميذ من أهل الصفاء والورع، الذين أخذوا الطريقة على يديه بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ونهلوا من معانيه الروحية ومعارفه الربانية. وكان سلمان الفارسي رضي الله عنه في مقدمة هؤلاء التلاميذ. يعتبر سلمان أحد سلف الزهاد الذين ينشدون الحقيقة، وقد هجر الأهل والأوطان ليبحث عنها في عدة أماكن مثل فارس ودمشق والموصل ونصيبين وعمورية ثم مكة المكرمة【1】.

وفي مكة وجد مبتغاه في سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، حيث أخذ الإسلام بقلبه وقالبها وخلص في القول والعمل، وصار من أهل الإيمان الذي لا تزعزعه الأنواء ولا تؤثر فيه الماديات.

كان سلمان رضي الله عنه يحرص على أن يكون قريباً من آل البيت، وكان يقود بغلة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الشهباء التي كانت تركبها سيدتنا فاطمة الزهراء عليها السلام في زفافها إلى الإمام علي (كرم الله وجهه)【2】. وقد وصف الإمام علي رضي الله عنه سلمان قائلاً: “ذلك امرؤ منا وإلينا أهل البيت، أدرك العلم الأول والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر”【3】.

وقد أشار الإمام زين العابدين عليه السلام في حديثه عن سلمان قائلاً: “لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله”【4】.

كان يظهر أثر الأحوال الصوفية على سلمان رضي الله عنه عندما تمس أنوار الآيات القرآنية قلبه، فقد روي أنه عندما نزلت الآية: “وإن جهنم لموعدهم أجمعين”【5】، صاح صيحة ووضع يده على رأسه ثم خرج هارباً ثلاثة أيام【6】.

حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه:

من الصحابة الذين كان لهم دور كبير في التصوف الروحي حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه، الذي امتاز بلقب “صاحب السر”【8】. هذا اللقب يشير إلى نوع من العلم الروحي الذي خصه به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. كان حذيفة رضي الله عنه يُعلم المنافقين وكان قد تلقى هذا العلم من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.

يقول السراج الطوسي: “لا خلاف بين أهل العلم أن في أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من كان مخصوصاً بنوع من العلم كما كان حذيفة مخصوصاً بعلم أسماء المنافقين”【9】.

وعن العلاقة الروحية بين حذيفة رضي الله عنه والإمام علي (كرم الله وجهه)، قال الإمام علي: “علمني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سبعين باباً من العلم لم يعلم ذلك أحداً غيري”【11】.

الكشف الصوفي وتأثيره في علم حذيفة:

كان علم حذيفة رضي الله عنه ليس مجرد حفظ للأسماء، بل كان مرتبطاً بالكشف الصوفي، الذي يعبر عنه الإمام علي (كرم الله وجهه) في تقسيمه للعلم بقوله: “الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح”【14】.

وقد قسم السراج الطوسي العلم إلى ثلاثة أنواع: “علم بين الخاصة والعامة، علم خص به قوم من الصحابة دون غيرهم، وعلم خص به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم”【15】.

إرشادات الإمام علي (كرم الله وجهه) لحذيفة:

الإمام علي (كرم الله وجهه) كان يوجه حذيفة رضي الله عنه في كيفية التعامل مع الناس، وخاصة في التعامل مع الأمور التي تهم الناس ويتطلعون إليها، مثل معرفة المستقبل. وقد قال له: “يا حذيفة: لا تحدث الناس بما لا يعرفون فيطغوا ويكفروا”【16】.

هذا يشير إلى أهمية الإرشاد الروحي الذي كان يعلمه الإمام علي (كرم الله وجهه) لتوجيه الآخرين إلى ما هو صحيح في التعامل مع الناس.

الصحابة المخلصين في طريق الإمام علي (كرم الله وجهه):

من الصحابة الذين كانوا يمثلون طائفة من المخلصين في عهد الإمام علي (كرم الله وجهه) نجد المقداد بن أسود، وخباب بن الأرت، والبراء بن عازب، وصهيب الرومي، وبلال بن رباح رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. هؤلاء الصحابة تمسكوا بعهد الولاية واتخذوا الإمام علي (كرم الله وجهه) هادياً ومرشداً لهم بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.

الإمام علي (كرم الله وجهه) والطريقة الكسنزانية

التلقين الروحي للطريقة:

يرى حضرة الشيخ الخليفة محمد المحمد الكسنزان (قدس الله سره) أن لب الطريق إلى الله تعالى هو “الحب”. فالمريد عندما يخلص في حب الله تعالى، فإن الطاعة تصبح سهلة عليه، بل يتلذذ بها ويرغب فيها لرغبة في القرب من المحبوب.

قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديث القدسي: “لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه”【21】.

وأفضل نوافل العبادات هي ذكر الله تعالى، لأنه غير محدد بزمان أو مكان. كلما أكثر الإنسان من ذكر شيء، أحبه، وهكذا ذكر الله تعالى هو أساس الطريق إلى الله، وأساس المحبة والطاعة والقرب.

التلقين من رسول الله صلى الله عليه وسلم للإمام علي (كرم الله وجهه):

عندما سأل الإمام علي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: “دلني على أقصر الطرق إلى الله وأخفها عليَّ”، أجابه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: “يا علي عليك بمداومة ذكر الله في الخلوات”، ولكن الإمام علي قال: “هذه فضيلة الذكر وكل الناس يذكرون”، فأجاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: “يا علي لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول (الله)”. ثم لقنه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كيفية الذكر بالقول، الذي يعتبر أول تلقين في الإسلام للطريقة الصوفية.

أثر الذكر في الإمام علي (كرم الله وجهه):

قال الإمام علي (كرم الله وجهه): “إن الله سبحانه جعل الذكر جلاء للقلوب، تسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به بعد المعاندة.”【23】

وهذا النص يبين تأثير الذكر في القلوب وكيف أنه يجلّي الحواس الباطنية ويعيد للنفس صفاءها.

سلسلة التصوف والطريقة الكسنزانية:

انتشرت الطريقة الكسنزانية على يد الإمام علي (كرم الله وجهه)، ووفق هذا النهج انتشرت وتفرعت الطرق الصوفية التي بدأت من الإمام علي (كرم الله وجهه) وحملت اسم “الطريقة العلية”. وكان كل شيخ يورث علومه الروحية للمريدين الذين يرون فيهم الأهلية لتكون هذه السلسلة متصلة عبر الأجيال.

وقد وصف الشيخ أحمد زروق الطريقة الصوفية فقال: “لا توجد طريقة صوفية في العالم الإسلامي ترتبط بحضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم إلا من خلال سيدنا علي (كرم الله وجهه).”

خاتمة

الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) كان بحق هو المستند الروحي الأعلى بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في التصوف، وتظل مدرسته وأسلوبه الروحي مرشدين لكثير من الطرق الصوفية عبر التاريخ.